سورة الأنعام - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


قلت: {ثم الذين كفروا}: عطف على جملة الحمد؛ على معنى: أن الله حقيق بالحمد على ما خلقه، نعمةً على العباد، ثم الذين كفروا بربهم الذي ربَّاهم بهذه النعم، يَعدِلون به سواه من الأصنام، يقال: عدَلت فلانًا بفلان؛ جعلته نظيره، أو عطف على خلَق وجعل: على معنى أنه خلق وقدّر ما لا يقدر عليه غيره، ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء. ومعنى {ثم}: استبعاد عدولهم بعد هذا البيان. والباء في {بربهم} متعلقة بكفروا، على الأول، وبيعدلون على الثاني، قاله البيضاوي.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {الحمد لله} أي: جميع المحامد إنما يستحقها الله، إذ ما بكم من نعمة فمن الله. {الذي خلق السماوات} التي تُظِلُّكم، مشتملة على الأنوار التي تضيء عليكم، ومحلاً لنزول الرحمات والأمطار عليكم، {و} خلق {الأرض} التي تُقلُّكم، وفيها نبات معاشكم في العادة، وفيها قراركم في حياتكم وبعد مماتكم، مشتملة على بحار وأنهار، وفواكه وثمار، وبهجة أزهار ونِوار، {وجعل الظلمات} التي تستركم، راحة لأبدانكم وقلوبكم، كظلمات الليل الذي هو محل السكون. {و} جعل {النور} الذي فيه معاشكم وقوام أبدانكم وأنعامكم. {ثم الذين كفروا} بعد هذا كله، {يعدلون} عنه إلى غيره، أو يعدلون به سواه، فيُسوَونه في العبادة معه.
قال البيضاوي: وجمع السماوات دون الأرض وهي مثلهن؛ لأن طبقاتها مختلفة بالذات، متفاوتة الآثار والحركات، وقدَّمها؛ لشرفها وعلو مكانها. ثم قال أيضًا: وجمع الظلمات؛ لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها، أو لأن المراد بالظلمة: الضلال، وبالنور: الهُدى. والهدى واحد والضلال متعدد. وتقديمها لتقدم الإعدام على المَلَكَهِ. ومن زعم أن الظلمة عرَضٌ يُضاد النور احتج بهذه الآية، ولم يعلم أن عدم الملكَة كالعمي ليس صِرف العدم حتى لا يتعلق به الجعل. اهـ.
الإشارة: أثنى الحقّ جلّ جلاله على نفسه بإنشاء هذه العوالم، التي هي محل ظهور عظمته وجلاله وجماله وبهائه. فأنشأ سموات الأرواح، التي هي مظهر لشروق أنوار ذاته وصفاته، ومحل لظهور عظمة ربوبيته، وأنشأ أرض النفوس، التي هي مظهر لتصرف أقداره، ومحل لظهور آداب عبوديته، وتجلى بين الضدين؛ بين الظلمات والنور، ليقع الخفاء في الظهور، كما قال بعض الشعراء:
................ لقد *** تكامَلَت الأضدادُ في كاملِ البهَا
ثم بعدها هذا الظهور التام، عدل عن معرفته جلُ الأنام، إلا من سبقت له العناية من المِلك العلام، وبالله التوفيق.


قلت: {أجل}: مبتدأ. و{مُسَمى}: صفته. و{عنده}: خبر، وتخصيصه بالصفة أغنَى عن تقديم الخبر.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {هو الذي خلقكم من طين} أي: ابتدأ خلقكم منه، وهو آدم، لأنه المادة الأولى، وهو أصل البشر. {ثم قضى أجلاً} تنتهون في حياتكم إليه. وهو الموت. {وأجل مسمى} مُعيَّن للبعث، لا يقبل التغيير، ولا يتقدم ولا يتأخر، (عن) استأثر بعلمه، لا مدخل لغيره فيه بعلم ولا قدرة، وهو المقصود بالبيان، {ثم أنتم تمترون} أي: تشكُّون في هذا الأجل المسمى الذي هو البعث.
و{ثم}: لاستبعاد امترائهم بعد ما ثبت عنه أنه خالقهم، وخالق أصولهم ومحييهم إلى آجالهم، فإن مَن قدر على خلق المواد وجمعها، وإيداع الحياة فيها وإبقائها ما شاء، كان أقدر على جمع تلك المواد وإحيائها ثانيًا. قاله البيضاوي.
الإشارة: القوالب من الطين، والأرواح من نور رب العالمين، فالطينية ظرف لنور الربوبية، الذي هو الروح؛ لأن الروح نور من أنوار القدس، وسر من أسرار الله، فمن نظَّف طينته ولطَّفها ظهرت عليها أسرار الربوبية والعلوم اللدنية، وكُشف للروح عن أنوار الملكوت وأسرار الجبروت، وانخنَست الطينية، واستولت عليها الروح النورانية، ومن لطّخ طينته بالمعاصي وكثّفها باتباع الشهوات، انحجبت الأنوار واستترت، واستولت الطينية الظُلمانية على الروح النُورانية، وحجبتها عن العلوم اللدنية والأسرار القدسية، بحكمته تعالى وعدله وظهور قهره. وبالله التوفيق.


قلت: {هو}: مبتدأ، و{الله}: خبره. و{في السماوات}: خبر ثاني، أي: وهو الله كائن أو موجود في السماوات وفي الأرض بنوره وعلمه. قال تعالى: {اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور: 35]. و{يعلم سركم وجهركم}: تقرير له.
يقول الحقّ جلّ جلاله: هذا الذي اختص بالحمد وأبدع الكائنات كلها {هو الله} ظاهر {في السماوات وفي الأرض} بنوره وقدرته وعلمه وإحاطته، فلا شريك معه {يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون} من خير أو شر، فيثيب عليه ويعاقب، ولعله أراد بالسر والجهر ما يظهر من أموال النفس، وبالمكتسب أعمال الجوارح. فالآية الأولى دليل القدرة التي ختم بها السورة، والآية الثانية دليل البعث، والآية الثالثة دليل الوَحدة.
الإشارة: قال بعض العارفين: الحق تعالى مُنزَّه عن الأّين والجهة، والكيف، والمادة، والصورة، ومع ذلك لا يخلو منه أين، ولا مكان، ولا كم، ولا كيف، ولا جسم، ولا جوهر، ولا عرض، لأنه للطفه سار في كل شيء، ولنوريته ظاهر في كل شيء، ولإطلاقه وإحاطته متكيف بكل كيف، غير متقيد بذلك، فمن لم يعرف هذا ولم يذقه ولم يشهده، فهو أعمى البصيرة، محروم من مشاهدة الحق تعالى. ولابن وفا:
هُوَ الحَقُّ المُحُيطُ بِكُلِّ شيءٍ *** هُوَ الرحمَنُ ذُو العَرشِ المَجيدِ
هَوَ المَشهُودُ في الأشهَادِ يَبدُو *** فَيُخفِيه الشهُودُ عَن الشِّهِيدِ
هَوَ العَينُ العيَانُ لِكُلِّ غَيبٍ *** هُوَ المَقصُودُ مِن بَيتِ القَصِيدِ
جَميعُ العَالِمَينَ له ظِلالٌ *** سُجُودٌ في القَريبِ وَفي البَعِيدِ
وَهَذا القَدرُ في التَّحقِيقِ كافٍ *** فَكُفَّ النَّفسَ عَن طَلَبِ المَزيدِ

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8